بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد: فأحد الله تعالى وأشكره على تيسير هذه الدروة التي أسأل الله تعالى أن يجعل فيها الخير والنفع والبركة.
فمثل هذه المجالس العلمية والدورات المباركة تختصر الكثير من الوقت والجهد لطالب العلم، إذ أنه يشرح ويعرض فيها أمور كثيرة في وقت قصير، فهي من نعم الله تعالى علينا، لهذا ينبغي الحرص عليها، ينبغي الحرص على مثل هذه اللقاءات العلمية والتي تكون مطولة، لأنها تختصر لك كثيرًا من الجهد ومن الوقت.
وموضوع هذه الدورة هو في الحقيقة مكمل للمناشط العلمية والدورات السابقة في هذا الجامع، فإنه في هذا الجامع شرحت متون كثيرة، وكنت ممن شارك في شرح عدد من المتون، ولكن لا بد لطالب العلم من العناية بالفقه المعاصر، ومن العناية بالنوازل المعاصرة، وأن يكون لديه الحد الأدنى لكل نازلة.
لأنه يلاحظ أن بعض طلبة العلم لديهم اهتمام كبير بالجانب التأصيلي وضبط كلام الفقهاء السابقين، ولكن عندهم قصور بما يتعلق بالفقه المعاصر وبالنوازل المعاصرة، فعندما يسأل عن مسألة من المسائل المعاصرة أو نازلة من النوازل ما يكون عنده جواب فيها، أين دراستك؟ أين طلبك للعلم هذه السنين الطويلة؟ فهذا يدل على أن هناك قصور وخلل، ولا بد لطالب العلم من أن يكون لديه الحد الأدنى لفهم هذه المسائل المعاصرة والنوال.
وأما كونه يعتذر بأنه لا يفهم شيئًا في المسائل المعاصرة ولم يعتني بها هذا ليس بعذر، هذا يعتبر قصور كبير لطالب العلم، خاصة وأن هذه المسائل المعاصرة والنوازل قد خُدمت من مؤسسات علمية كثيرة في العالم الإسلامي، والأمة ولله الحمد لا تزال بخير.
ففيها عناية ببحث هذه القضايا المعاصرة والنوازل فيها اجتهاد جماعي يصدر عن نخبة من أبرز فقهاء العالم الإسلامي، فعلى الأقل تضبط آراء المؤسسات العلمية، والمجامع الفقهية في هذه النوازل والقضايا المعاصرة، هذا هو الحد الأدنى لهذه المسائل.
أما أن طالب العلم يكون جاهلًا بهذه المسائل والنوازل والقضايا المعاصرة؟ هذا خلل وقصور كبير، وليس المطلوب هنا عندما نشرح النوازل أننا الآن سوف نتباحث لأجل إصدار أحكام جديدة فيها، ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود هو أن نعطي نبذة مختصرة عن كلام العلماء المعاصرين عن كل نازلة وعن كل قضية معاصرة.
ولذلك سأعتنى إن شاء الله في هذه الدورة عندما أذكر نازلة من النوازل بأن أوثق أبرز ما قال فيها بأقوال موثقة من مجامع فقهية، من هيئات علمية، من كبار علماء العالم الإسلامي، بعد كل نازلة سأقول: ومن أبرز من قال بهذا القول كذا، مجمع الفقه الإسلامي بكذا، هيئة كبار العلماء، العالم الفلاني، وسنقتصر على كبار العلماء، فضبط هذه الأقوال هو الحد الأدنى لطالب العلم في هذه المسائل والنوازل والقضايا المعاصرة.
وأنت تجد من العامة أسئلة كثيرة حول هذه المسائل، وبرامج الإفتاء تكون الأسئلة كثيرة فيها عن هذه المسائل القضايا المعاصرة، فطالب العلم ينبغي أن يكون عند توازن، كما أنه له عناية بالمسائل الفقهية التي دونها الفقهاء السابقون، وله عناية بالتأصيل وله عناية بأصول الفقه وله عناية بالقواعد الفقهية، كذلك أيضًا ينبغي أن يكون له عناية بضبط كلام العلماء المعاصرين في هذه المسائل المعاصرة، وهذه القضايا والنوازل.
وسنسير إن شاء الله على الخطة التي أعلنت في هذا الجامع حيث ننتهي إن شاء الله مع آذان العشاء بإذن الله عز وجل، وسنجعل في البداية مقدمة تأصيلية لفقه النوازل.
فأقول وبالله التوفيق: إن الله عز وجل جعل هذه الشريعة كاملة، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].
وقد أكمل الله تعالى هذا الدين، فما من قضية تقع إلا ولله تعالى فيها حكم، علمه من علمه وجهله من جهله.
يقول أبو ذر رضي الله عنه: "ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائر يطير بجناحيه إلا وذكر لنا منه علمًا"، وجاء في صحيح مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن يهوديًا سأله: قال: علمكم نبيكم كل شيء حتى هذا؟ يعني آداب قضاء الحاجة، قال: أجل، ثم ذكر بعض الآداب التي علمهم إياها النبي صلى الله عليه وسلم بشأن قضاء الحاجة.
هذا لا نظير له في أي دين آخر، أن تذكر هذه المسائل وهذه الدقائق المتعلقة بآداب قضاء الحاجة، بالسواك، بخصال الفطرة، مسائل دقيقة جدًا، هذه لا توجد في أي دين من الأديان وملة من الملل، ومع ذلك نجد العناية الكبيرة في الشريعة الإسلامية لهذه المسائل.
حتى إن الفقهاء يعقدون أبوابًا، باب السواك، باب مستقل في كتب الفقه، باب أداء قضاء الحاجة باب مستقل، باب خصال الفطرة، باب الاستنجاء، والاستجمار، هذه مسائل دقيقة، ولذلك هذا اليهودي تعجب، يقول علمكم نبيكم كل شيء حتى هذه الأمور؟ هذه الشريعة جعلها الله تعالى كاملة لكل ما يحتاج إليه البشر.
وجعلها الله تعالى أيضًا محفوظة بحفظ الله سبحانه، كما قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، والمقصود بالذكر القرآن، لكن أيضا السنة يقول أهل العلم: إن حفظ القرآن يتضمن حفظ السنة، كما أشار إلى هذا الشاطبي في الموافقات وعلل هذا بأن السنة بيان للقرآن، والله تعالى يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتفَكَّرُونَ} [النحل:44].
وحفظ المبين يقتضي حفظ البيان لأنه لازم له، فإذًا تكفل الله تعالى بحفظ القرآن والسنة، فهي محفوظة بحفظ الله تعالى، وهي كاملة، ومعنى الكمال هنا هو أنها شاملة للكليات التي يحتاج إليها الناس، جميع الكليات التي يحتاج إليها الناس أتت بها الشريعة، وأما الجزئيات التي لا تتناهى فإنها ترد إلى هذه الكليات. وبهذا تكون كاملة.
قد يقول قائل مثلًا تقع نوازل في هذا العصر هذه ليس لها ذكر في الكتاب ولا في السنة كيف يكون لها حكم في الشريعة؟ نقول: نعم، ترد إلى الكليات التي أتت بها الشريعة، فهي بهذا الاعتبار تعتبر كاملة، ولهذا لم نجد يومًا من الأيام أن الفقهاء في أي عصر وفي أي مصر عجزوا عن بيان حكم مسألة أبدا، أي مسألة لم يعجز الفقهاء يوم من الأيام عن تبيين حكمها الشرعي، لأن عندهم قواعد يردون إليها هذه النوازل وهذه المسائل المعاصرة، فيعرفون حكمها.
وأيضًا مع هذا الكمال وهذا الحفظ تكفل الله تعالى بحفظ مجموع أفراد الأمة، فلا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، فإذا أجمعت الأمة على شيء فهو الحق، لأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة.
ولهذا فمن أقوى الأدلة الإجماع، حتى أن بعض أهل العلم يقدم دلالة الإجماع على دلالة الكتاب والسنة، يقول: لأن الإجماع معصوم، أما الكتاب والسنة فقد يخطئ العالم في فهم دلالة الكتاب أو فهم دلالة السنة، ولكن الذي عليه أكثر أهل العلم أنه يقدم القرآن ثم السنة ثم الإجماع.
لكن قال أهل العلم: أنه لا يخلو زمان من قائل بالحق، فإذا نزلت نازلة لا يمكن أن يخفى الحق على جميع علماء الأمة، لا بد من قائل بالحق لا بد، ومن هنا اختلف العلماء إذا كانت المسألة قد طرقت من قبل ولم يحفظ فيها إلا قولان مثلا للعلماء المتقدمين.
هل يجوز إحداث قول ثالث في هذه المسألة؟ هذه مسألة أصولية، هل يجوز إحداث قول ثالث؟ هل يجوز للإنسان أن يتبنى قولا لم يسبق إليه في مسألة طرقها الفقهاء السابقون ليست نازلة، مسألة طرقها الفقهاء السابقون وتكلموا عنها وموجودة في زمنهم؟ فهل يصح إحداث قول جديد في هذه المسألة’ هذه مسألة أصولية، وفيها خلاف قوي، أنا أثيرها لكم، أثير هذه المسألة لكي تبحثوها، لأنها ليست من المسائل الأساسية معنا في هذا، لكنها من المسائل الأصولية التي الخلاف فيها قوي.
فقه النوازل، لو أردنا أن نأخذ تعريفًا مبسطًا لهذا المصطلح، فالفقه معناه في اللغة الفهم، ومنه وقل الله تعالى عن موسى صلى الله عليه وسلم: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27-28]، يعني حتى يفهموا قولي، فمادة الفقه في اللغة العربية تدور حول معنى الفهم، ومنه قول الله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78].
يعني لا يكادون يفهمون حديثا، ومعناه اصطلاحًا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، هذا هو معنى الفقه الاصطلاحي، وإن كان معنى الفقه في الشريعة أشمل من هذا، معنى الفقه في الشريعة يشمل الأحكام العملية والاعتقادية.
بل إن الإمام أبا حنيفة ألف كتاب في العقيدة وسماه الفقه الأكبر، وعلى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، ليس المقصود به الفقه بمعناه الاصطلاحي، وإنما المقصود الفقه بمعنى معرفة أحكام الشريعة عمومًا، سواء كانت الأحكام العملية أم الأحكام الاعتقادية.
والفقه في الدين هو من نعمة الله تعالى على الإنسان، وإذا رأى الإنسان من نفسه حرصًا على التفقه وميلًا لطلب العلم فهذه أمارة إن شاء الله على أنه أريد به الخير، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين». متفق عليه.
ولا يمكن للإنسان أن يعبد الله عز وجل كما يحب الله إلا عن طريق العلم والفقه، وأما الفقه في معناه الاصطلاحي فهو من أشرف العلوم وأعظمها نفعًا، ولذلك عندما تشاهد أو تستمع إلى برنامج الإفتاء ما أكثر أسئلة الناس؟ يعني أكثر أسئلة الناس في أي علم؟ عندما تستمع لأي برنامج إفتائي عبر وسائل الإعلام تجد أن أكثر أسئلة الناس في الفقه، أحكام الصلاة والزكاة والمعاملات وأحكام الحلال والحرام، معظمه فقه، فالفقه من أهم العلوم.
وكذلك أيضًا العقيدة، هذان العلمان الفقه والعقيدة ينبغي أن يركز عليهما طالب العلم، ويعنى بهما عناية كبيرة، وبقية العلوم يكفي أن يأخذ منها بقدر معين، يعني مثلا مصطلح ليس بالضرورة أنك تتعمق في المصطلح ومعرفة العلل، يمكن تعتمد على حكم المحدثين في كون هذا الحديث صحيحًا أو ضعيفًا.
أصول الفقه والحديث هذان لا بد أن يدخلا في أثناء التفقه، يعني لا يمكن أن تدرس الفقه بالطريقة الصحيحة إلا إذا درست الفقه بأصول الفقه ومقترنًا بالحديث، فلا بد من هذه العلوم الثلاثة تكون جميعًا حتى تتفقه التفقه الصحيح الأمثل.
لا بد أن يجتمع الفقه بمعناه الاصطلاحي وأصول الفقه والحديث، فتسير جميعًا، أما فصلها فهذا يعتبر قصور وخلل، فصل الفقه عن أصول الفقه وعن الحديث، هذا يعتبر خلل، فلا بد من أن تدرسها جميعًا.
النحو تحتاج إلى قدر معين، بقدر ما يستقيم به اللسان، لكن لست بحاجة الدخول في خلافات البصريين والكوفيين وبعض الدقائق، بعض العلوم تحتاج منها بقدر معين، لكن أبرز علمين ينبغي العناية بهما العقيدة والفقه.
قلنا فقه النوازل، النوازل جمع نازلة، والنازلة معناها في اللغة المصيبة الشديدة من مصائب الدهر، وعلى هذ قول الشاعر: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعا، وعند الله منها المخرج، رب نازلة، يعني مصيبة، ومنه القنوت في النوازل، يعني المصائب التي تحل بالمسلمين، فإذا مادة النازلة في اللغة العربية معناها المصيبة الشديدة.
والنوازل بمعناها الاصطلاحي الوقائع الجديدة التي لم يسبق فيها نص أو اجتهاد، فقولنا في التعريف الوقائع يشمل كل ما يقع للناس من مسائل وقضايا تحتاج لتبيين الحكم الشرعي، سواء في العبادات أو في المعاملات أو في غيرها.
وجديدة يخرج به المسائل القديمة، التي تكلم عنها العلماء السابقون، فلا تعتبر نوازل بهذا المصطلح، التي لم يسبق فيها نص أو اجتهاد يخرج به ما ورد فيها نصوص، هذه لا تعتبر نوازل، أو اجتهاد من العلماء السابقين أيضًا لا تعتبر نوازل.
ولكن قولنا: الوقائع الجديدة هذا يشمل الوقائع الجديدة التي النوازل المستحدثة أو الجديدة التي لم يسبق فيها نص ولا اجتهاد ولم يتكلم عنها أحد.
وأيضًا يشمل المسائل القديمة التي طرأ عليها ما يقتضي إعادة النظر في حكمها، يعني أذكر على سبيل المثال: إخراج الشعير في زكاة الفطر، إخراج الشعير في زكاة الفطر إن شاء الله سنتكلم عنها.
هي مسألة قديمة، لكن الآن أصبح الناس لا يعتبرون الشعير قوتًا للآدميين، وإنما يعتبرونه علفًا للبهائم، فهنا طرأ عليه ما يستدعي إعادة النظر في حكمه، فبهذه العبارة تعتبر نازلة.
وعلى هذا المصطلح سنسير إن شاء الله في هذه الدورة بحيث تشمل هذين الأمرين، المسائل الجديدة التي لم يسبق فيها نص ولا كلام للعلماء السابقين، والمسائل القديمة التي طرأ عليها ما يستدعي إعادة النظر فيها، سنسير إن شاء الله على هذا الضابط، وهذا الضابط أيضًا هو المعتمد عندنا في كلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
فعندنا في قسم الفقه مشروع النوازل، رسائل ماجستير ودكتوراه، من كتاب الطهارة إلى الإقرار، جميع أبواب الفقه، وسار القسم على هذا الضابط، بحيث يشمل النوازل الجديدة ويشمل المسائل القديمة التي استجد ما يستدعي إعادة النظر فيها.
ولذلك لو أخذت أي رسالة عليمة وهي كثيرة مطبوعة الآن موجودة في الأسواق مثل نوازل الحج، نوازل الزكاة، ستجد أنها لو طالعت الفهرس تجد أنها ليست كلها جديدة، إنما بعضها قديم، لكن طرأ عليها ما يستدعي إعادة النظر فيها، هذا هو إذًا الضابط الذي سنعتمده في هذه الدورة إن شاء الله.
هل كان هذا المصطلح موجودًا عند العلماء السابقين؟ بعض المعاصرين قال: أن هذا المصطلح أنه ليس موجودا، وأنهم كانوا يطلقون الوقائع والحوادث، ولكن هذا محل نظر، فنجد أن هذا المصطلح كان موجودًا ومستعمل لدى بعض العلماء السابقين، وأذكر على سبيل المثال الحافظ ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله قال: باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة، فاستخدم ها المصطلح مع أن الحافظ ابن عبد البر توفي سنة 463 للهجرة.
أيضًا ابن رشد الجد المتوفى سنة 520 للهجرة له كتاب بعنوان نوازل ابن رشد أو فتاوى ابن رشد أو أجوبة ابن رشد، فيعني من ضمن عنوان الكتاب نوازل، نوازل ابن رشد، كذلك ابن القيم في إعلام الموقعين قال: فصل فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدون في النوازل، فهذا المصطلح كان موجودًا لدى العلماء السابقين.
وإنما أوردت هذا لأن هناك من يقول أن هذا المصطلح أنه لم يكن متداولًا لدى العلماء السابقين، وهذا غير صحيح.
حكم الجهاد في النوازل: الاجتهاد في النوازل فرض كفاية، إذا قام به بعض من يكفي سقط الإثم عن الباقي، ويدل لذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].
وهذا فيه إشارة إلى أن العلماء يجب عليهم البيان ولا يجوز لهم كتمان العلم، لأن الله تعالى ذكر الذم للذين أوتوا الكتاب، وأن الله تعالى قد أخذ عليهم الميثاق ليبيننه ولا يكتمونه ولكنهم لم يفعلوا، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
هذا فيه تنبيه للعلماء بأن الواجب عليهم البيان ولا يجوز لهم كتمان العلم.
السلف الصالح كانوا يكرهون التسرع في الفتيا، ويود كل واحد منهم أن أخاه كفاه، كما قال ابن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من أصحاب الني صلى الله عليه وسلم ما منهم أحد إلا ود أن أخاه كفاه".
لكنهم مع ذلك فكانوا إذا عرضت لهم نازلة فإنهم يجتهدون فيها، لا يتركوا العامة من غير تبيين للأحكام، فالتورع عن الفتيا لا ينافي أنه لا بد من التصدي للنوازل وللقضايا المستجدة وتبيين الحكم الشرعي فيها، ولهذا كان الصحابة يجتهدون في النوازل والقضايا.
لكن كان مذهب الصحابة رضي الله عنهم أنهم عندما تقع نازلة يجتمعون ويتشاورون ويتباحثون حتى يخرجوا عن رأين وهو ما يسمى بالاجتهاد الجماعي، ولذلك أفضل طريقة للتعامل مع النوازل والقضايا المعاصرة هو أن تصدر عن الاجتهاد الجماعي، لأن الاجتهاد الجماعي أقرب للتوفيق وإصابة الحق من الاجتهاد الفردي.
إذًا أفضل طريقة للنظر في النوازل والقضايا المستجدة هي صدورها عن الاجتهاد الجماعي، لأنه أقرب للتوفيق، والصحابة رضي الله عنهم إذا نزل فيهم نازلة اجتمعوا، ومن ذلك على سبيل المثال لما سار عمر رضي الله عنه بجيشه إلى الشام، ففي الطريق أُبلغ عمر بأن الطاعون قد وقع بأرض الشام.
فالآن عمر أمام نازلة، ماذا يفعل: هل يسير بالجيش إلى الشام أو يرجع إلى المدينة؟ فهو الآن أمام نازلة، فجمع عمر رضي الله عنه الصحابة وكان أول من جمع المهاجرين، فدعاهم فاستشارهم فاختلفوا، فقال بعضهم نرى أن نرجع ولا نعرض الناس إلى التهلكة.
وقال آخرون: نرى أنك قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع، قد خرجت في جهاد في سبيل الله، فقال: قوموا عني، ثم دعا الأنصار، فاختلفوا، كما اختلف المهاجرون، ثم دعا من كان من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فلم يختلفوا واتفقوا على أنه يرجع، فأخذ عمر بهذا الرأي ونادى في الناس بالرجوع.
فأتى أبو عبيدة وقال: يا أمير المؤمنين، أتفر من قدر الله؟ قال: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة، نحن نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليست رعت الأرض الخصيبة رعتها بقدر الله وأن رعت الجدبة رعت بقدر الله؟ قال: بلى.
ثم إن عبد الرحمن بن عوف كان متغيبًا لبعض حاجته، فجاء فأخبر بما حصل فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها»، فحمد الله عمر والصحابة وكبروا، أن الله وفقهم للحق وللصواب في هذه النازلة.
فانظر إلى منهج الصحابة، كيفية التعامل مع هذه النازلة، كيف أنهم تشاوروا ثم تشاوروا ثم تشاوروا ثم صدروا عن رأي، صدروا واتفقوا على رأي واحد، ثم بعد ذلك تبين أن هذا الرأي الذي صدروا عنه هو الحق، وأبلغهم عبد الرحمن بأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم سمعه كلامًا في مثل هذه النازلة، وقد كان هذا هو منهج الصحابة رضي الله عنهم.
ثم كان هو منهج التابعين وتابعي التابعين إلى وقتنا هذا، في الوقت الحاضر وجد مؤسسات وهيئات علمية تعنى بالاجتهاد الجماعي في النوازل والقضايا المعاصرة، والأمة لا تزال بخير.
وكما ذكرت في مقدمة هذا الدرس بأن طالب العلم الحد الأدنى بالنسبة له يضبط على الأقل آراء الهيئات العلمية في هه النوازل والقضايا المعاصرة.
أبرز هذه الهيئات العلمية المجامع الفقهية، وأبرز المجامع الفقهية مجمعان، المجمع الأول: هو المجمع الفقهي الإسلامي لرباطة العالم الإسلامي، وله ما يقارب ست وأربعون عامًا من تأسيسه تقريبًا، وعقد ثنتين وعشرين دورة، كل سنتين يعقد دورة، ويعنى ببحث القضايا والنوازل المعاصرة.
وقد شاركت معهم في عدد من الدورات تقريبا الخمسة عشر عامًا الماضية، وطريقتهم في هذا أنه يستكتب باحثون في هذه النوازل ويحضر الباحثون مع فقهاء المجمع في حلقة نقاش، ويعرض كل باحث بحثه، ثم بعد ذلك يفتح المجال للنقاش، ويعلق الباحثون أحيانًا على بعض ما قيل.
وتكون هناك لجنة صياغة القرار، تكون هناك لجنة لصياغة القرار، وتجتمع هذه اللجنة وتعد هذا القرار في هذه المسألة أو النازلة أو القضية المعاصرة ويعرض مرة أخرى على الجميع.
وأحيانًا يرون أن بحث هذه المسألة لم يكن كافيًا، وأن العرض والنقاش ليس كاف فتحول لدورة أخرى، وأحيانًا يرون أن هذا الموضوع أخذ حقه من البحث ومن النقاش فيصدر فيه القرار، وعند الاختلاف يكون هناك تصويت، هذه طريقة عمل المجمع.
أما كيفية الحصول على قرارات المجمع فقد طبعت في كتاب قرارات المجمع، وموجودة أيضًا على موقع الرابطة، وأيضًا في الأمر الأخير وضع موقع خاص بالمجمع.
المجمع الثاني: مجمع الفقه الإسلامي الدولي، تابع لمنظمة التعاون الإسلامي، ومقره جدة، وقد كانت له ما يقارب سبعة وثلاثون عامًا، كانت بداية في 1401، وواقع نظامه أنه ينعقد كل عام، لكن الواقع العملي أنه لا ينعقد إلا كل سنتين.
وأحيانًا يتأخر لأسباب، وكل عام أو في كل دورة ينعقد في دولة من دول العالم الإسلامية، كان آخر ما انعقد في الكويت العام الماضي، الدورة الثانية والعشرين.
وطريقته قريبة من طريقة مجمع الفقهي بالرابطة، يستكتب الباحثين ثم المناقشات ثم صدور قرار، وأما كيفية الحصول على قراراته فأيضًا طبعت في كتاب وموجودة على موقع المجمع، لو وضعت في محل البحث المجمع الفقهي الإسلامي الدولي تجد موقع المجمع.
وأيضًا هناك مجلة كبيرة ضخمة فرغ فيها المناقشات التي قيلت في دورات المجمع، وتزيد على خمسة وأربعين مجلدًا ضخمًا، وهي مفيدة في التعرف على المسائل والقضايا والنوازل وما قيل فيها، وأيضًا هذه المجلة ضمنت الأبحاث والمناقشات.
هذان المجمعان هما أبرز مجمعين، هناك مجامع صغيرة، هناك مثلا المجمع الفقهي بالهند، لكنه محلي، والمجمع الفقهي بالسودان، ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا الشمالية، ومجلس الإفتاء الأوربي، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، يعني هذه مجامع صغيرة، لكن أبرز مجمعين هما مجمع الفقه بالرابطة والمجمع الدولي.
وأما بالنسبة للهيئات العلمية التي تعنى بالنوازل والقضايا المعاصرة أبرزها هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وتنعقد دورتها العامة بجميع الأعضاء مرتين في السنة، كل ستة أشهر تنعقد الدورة العامة لجميع الأعضاء، وغالب ما يعرض عليهم من النوازل، من القضايا المعاصرة، ونشر كثير منها نشرت، ونشرت أبحاث هيئة كبار العلماء في ثمانية مجلدات، وأيضًا كثيرًا من القرارات هي تنشر في ومجلة البحوث الإسلامية التابعة لدار الإفتاء.
وأيضًا طريقته قريبة من طريقة عمل المجامع، يكون هناك بحوث محكمة تعرض على أعضاء الهيئة ويكون هناك نقاشات طويلة في هذه القضايا والنوازل ثم يصدر بعد ذلك قرار، إما بالإجماع أو بالأغلبية، ويتفرع منها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وهي من أعضاء هيئة كبار العلماء، لكنها متفرغة، بينما بقية أعضاء الهيئة غير متفرغين.
وهذه تجتمع مرتين في الأسبوع، وتستقبل استفتاءات من الناس، وأحيانًا تكون بعض الاستفتاءات في النوازل وفي القضايا المعاصرة ويصدر فيها فتاوى.
أيضًا من الهيئات العلمية التي تعنى بالنوازل هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، لكن هذه خاصة بالمعاملات المالية المصرفية، ومقرها في البحرين، ولكنها خاصة بالمعاملات المالية المصرفية أيضًا، وصدر عنها معايير الشرعية، تجاوزت الآن خمسين معيارًا، لكنها ليست شاملة لجميع أبواب الفقه، لكنها خاصة في المعاملات المالية المصرفية.
أيضًا من الهيئات العلمية الهيئات الشرعية للمصارف، وبخاصة المصارف الإسلامية، لأن الهيئات العلمية أقوى من الهيئات الشرعية، يعني للمصارف التقليدية، وأبرز الهيئات الشرعية للمصارف: الهيئة الشرعية لمصرف الراجحي، وأيضًا الهيئة الشرعية لبنك البلاد ومصرف الأئمة، والهيئة الشرعية لمصرف الراجحي أصدرت قراراتها في مجلدين، يمكن الإفادة منها لكنها خاصة بالمعاملات المالية أيضًا.
هناك بعض الفتاوى لبعض المشايخ على الإنترنت يمكن الاستفادة منها، فربما يتعرضون لبعض النوازل والقضايا المعاصرة، هذه لمحة موجزة عن كيفية الوصول لهذه النوازل ومعرفة الأحكام الشرعية في النوازل والقضايا المعاصرة.
القضايا المعاصرة الحقيقة والنوازل أكبر إشكالية فيها هو التصور، لأنها أحيانًا تكون قضايا معقدة، وكما تعرفون نحن الآن في عصر التخصص، قد تكون المسألة طبية مثلًا وفيها جوانب طبية دقيقة تؤثر على الحكم الشرعي.
فلا بد من الرجوع لأهل الاختصاص، لا بد إلى الرجوع للأطباء، قد تكون المسألة اقتصادية، يرجع للاقتصاديين، قد تكون المسألة فلكية، يرجع لأهل الفلك وهكذا.
فلا بد من الرجوع لأهل الاختصاص، والهيئات العلمية التي تعنى بالاجتهاد الجماعي لديها عناية بهذا الجانب، تستدعي وتستكتب المختصين في هذه العلوم، فمثلًا عندنا في هيئة كبار العلماء نستدعي المختصين في النوازل التي تطرح ويحضرون لمقر الهيئة ويعرضون ما لديهم ويناقشون، والمجامع الفقهية كذلك أيضًا تستدعي مختصين وتستكتبهم.
فإذًا أهم شيء في القضايا والمسائل المعاصرة هو التصور الصحيح والدقيق لها، كثيرًا ما يكون الخطأ أو عدم التوفيق للصواب في هذه القضايا والنوازل المعاصرة من جهة عدم التصور، أو التصور الخاطئ الذي يبنى عليه حكم غير صحيح، فلا بد إذًا من أن يعنى بجانب التصوير الصحيح والدقيق للمسألة.
وأيضًا حسن التخريج الفقهي لها، وكما سترون إن شاء الله سنعرض هذه لبعض هذه النوازل وسنقول هذه النازلة تخرج على مسألة كذا، هذه النازلة تخرج على مسألة كذا، ثم نذكر آراء العلماء السابقين في المسألة المخرج عليها، سنأخذ إن شاء الله أمثلة عملية لهذا الشيء.
وأما مناهج النظر في المسائل المعاصرة إذا نظرنا للواقع نجد أن هناك ثلاثة مناهج، المنهج الأول: منهج التشديد، والتضييق، ويغلب على أصحاب هذا المنهج التحريم، يعني مباشرة أي مسألة جديدة يقول حرام، لا تجوز.
وهذا المنهج منهج غير سديد ولا يتوافق مع هذه الشريعة الإسلامية السمحة التي رفع الله تعالى فيها الحرج عن المكلفين، فقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
ولذلك تجد أن بعض من يسلك هذا المسلك معظم أجوبته يقول حرام، لا تجوز، بل يشنع على من يقول بالجواز، لأنه ربما يكون له أدلته، ولهذا يقول سفيان له كلمة مشهورة في هذا يقول: التشديد كل يحسنه، وإنما العلم الرخص عن الثقات.
من السهل تقول حرام وتغلق الباب وتنتهي، هذا الكل يحسنه، لكن الرخصة عن ثقة هذا هو العلم، وبعض من يسلك هذا المنهج تجد أنه يجيب حتى بأجوبة عجيبة. يسأل عن معاملة مالية يقول: إن كان فيها ربا فهي حرام، مستفتي يسأل هل فيها ربا أو ما فيها ربا، هذه ليست إجابة صحيحة.
المستفتي يسألك هل هذه المعاملة محرمة لكونها فيها ربا، أو فيها جهالة أو فيها غرر، فكيف تجيب بهذا الجواب؟ كيف تقول إن كان فيها ربا فهي حرام؟ فأنت الآن مسئول هل فيها ربا أو ليس فيها ربا، إن كنت لا تعلم قل لا أعلم، أما إن كان فيها ربا فأنت الذي تبين هذا الربا، تقول أنها محرمة لأن فيها ربا، ووجه ذلك كذا، أما مثل هذا الجواب غير صحيح وغير مقبول.
فهذا العامي لا يعرف فيها ربا أو ما فيها ربا، هو يسألك الآن، كيف تحيل هذا العامي تقول إن كان فيها ربا فهي حرام،؟ العامي لا يعرف هل فيها ربا أو ما فيها ربا، ولا يعرف العامي علة الربا ولا يعرف كيفية تطبيق هذه العلة على هذه المسألة.
فالإنسان إذا كان لا يعرف الإجابة يقول لا أدري كما كان السلف يقولون لا أدري، بعض السلف إذا سئل عن مسألة لا يعرفها يقول لا أدري، الإمام مالك اشتهر عنه هذا أنه سئل عن ثنتين وأربعين مسألة قال في ثماني وثلاثين منها قال لا أدري، فإذا كان الإنسان لا يعلم يقول لا أعلم أو لا أدري.
أما الإجابة بمثل هذا الجواب فهذا غير مقبول، يقابل هذا المنهج منهج آخر وهو منهج التساهل والتمييع في قضايا الدين، وهذا المنهج موجود، ومن أبرز ملامحه الإفراط في العمل المصلحة ولو عارضت النصوص، وتتبع الرخص.
وأيضًا التأثر بضغط الواقع، فيريد أن يبيح هذه المعاملة بأي طريقة، لأن الواقع يضغط عليه، لأنه إذا لم تجوز هذه المعاملة فيترتب عليها كذا وكذا، فيغلب على أصحاب هذا المنهج التأثر بضغط الواقع، وهذا موجود في بعض الهيئات الشرعية في بعض المصارف، يغلب عليه التساهل.
وتجيز مثلًا بعض المعاملات المحرمة بتخريجات غير صحيحة، فهذا المنهج منهج التمييع والتساهل هذا أيضًا منهج غير صحيح، وموجود أيضًا في الواقع وموجود في الساحة.
المنهج الثالث: ما هو؟ ليس الوسط، ليس دائمًا الوسط هو الصحيح، بعض الناس يقول الوسط هو الصحيح، ليس دائمًا الوسط هو الصحيح، وإنما الأخذ بما دلت عليه الأدلة، إن كانت الأدلة شددت فيشدد في المسألة، وإن كانت الأدلة جعلت المسألة فيها سعة فيتسامح فيها.
فهو منهج في الحقيقة نستطيع أن نسميه منهج الاعتدال والأخذ بما دلت عليه الأدلة، فإن كانت الأدلة شددت في هذه المسألة فيشدد فيها، وإن كانت الأدلة لم تشدد فيها فلا يشدد فيها، وهذا هو المنهج الحق، وليس المنهج الصحيح هو الوسط، بل النظر لما تقتضيه الأدلة.
فأحيانًا بعض القضايا نجد أن الشريعة شددت فيها، لا بد أن يشدد المفتي وطالب العلم فيها، فمثلًا مسائل الربا، شددت فيها الشريعة تشديدًا عظيمًا، حتى أنها منعت الربا، سدت الذرائع الموصلة للربا ولو من وجه بعيد.
مثلًا قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث سعد بن أبي وقاص لما سئل عن بيع الرطب بالتمر، يعني مع التماثل والتقابض، كيلو رطب بكيلو تمر، مع التقابض، هل يجوز؟ سئل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال، فقال: «أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: لا، إذًا».
مع أن النقص يسير لكن الشريعة شددت في هذه المسألة، فمسائل الربا مثلا نشدد فيها، مسائل المعاملات التي ليس فيها ربا ولا جهالة ولا غرر ولا ميسر الأصل فيها الإباحة، لا يشدد فيها، الصل فيها الإباحة والحل.
العادات مثلا الأصل فيها الإباحة، مسائل مثلا الزينة للمرأة، النمص والوشم والوصل والتفليج هل الشريعة شددت فيها أم جعلت الأمر فيها واسعًا؟ شددت فيها، ورتبت على ذلك اللعن، لعن، لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والموصولة، قال: «لعن الله الواصلة والموصولة، ولعن النامصة والمتنمصة والواشمة والمستوشمة، والمتفلجات للحسن».
ما معنى التفليج؟ التفليج هو التفريق بين الأسنان، يكون تفعله المرأة الكبيرة التي تقدم بها السن حتى تظهر أنها لا زالت صغيرة، تفريق بين الأسنان فقط ومع ذلك يترتب عليه اللعن، واعتبر تغييرًا لخلق الله.
فإذًا هذه القضايا نشدد فيها، لأن الشريعة شددت فيها، لكن مسائل أخرى جعلت الشريعة الأمر فيه سعة، ما يشدد فيها، يقال الأمر فيه واسع، فهذا هو المنهج الصحيح.
إذًا المنهج الصحيح هو النظر فيما تقتضيه الأدلة، والأصول والقواعد الشرعية، فيشدد في مواضع التشديد ويتسامح في المواضع التي جعلت الشريعة فيها سعة، هذا هو المنهج الحق في التعامل مع النوازل والقضايا المعاصرة، ومسائل الفقه عمومًا.
ولكن أيضًا من حيث النظر ينبغي سلوك مسلك الاعتدال، يعني لا تشدد ولا تساهل، وتجد أن بعض الناس يغلب عليه التشدد، يغلب على معظم فتاواه التحرين وعدم الجواز، وبعضهم على العكس، لا يكاد يقول حرام إلا في مسائل قليلة، والمطلوب هو الاعتدال.
لا يسلك الإنسان مسلك التشدد ولا مسلك التسامح، إنما الاعتدال، ولهذا يقول الشاطبي رحمه الله يقول عن هذا المنهج يقول: أنه الطريق المستقيم، فلا تشدد ولا تساهل ولكن فهو المنهج السديد.
والعلماء أجازوا للمفتي أن يتشدد في الفتيا على سبيل السياسة لمن هو مقدم على المعاصي، وكذلك يبحث عن التيسير والتسهيل على ما تقتضيه الأدلة لمن هو مشدد على نفسه ونحو ذلك.
هناك أمور ينبغي العناية بها عند النظر في النوازل والقضايا المعاصرة، ومن هذه الأمور النظر لمقاصد الشريعة، العناية بمقاصد الشريعة مهم جدا عندما ينظر لهذه النازلة، ويراد تقرير حكم فيها، فلا بد أن ننظر لمقصود الشارع في هذا الباب، ما مقصود الشريعة في هذا الباب وبهذا الجانب؟
فمعرفة مقاصد الشريعة يعين طالب العلم على إصابة الحق، ومن أبرز من يعنى بمقاصد الشريعة ويغلب على منهجه المنهج المقاصدي، في تقريراته وفي ترجيحاته وفي اختياراته، من هو؟ ابن تيمية رحمه الله، وابن القيم، ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى يغلب عليهما هذا المنهج، المنهج المقاصدي.
فتجد أنهما كثيرًا ما يربطان الترجيح والاختيارات بمقاصد الشريعة، فينظر لمقاصد الشريعة في هذا الجانب، هل هذا يحقق مقاصد الشريعة أو لا يحقق مقاصد الشريعة، أو يتعارض مع مقاصد الشريعة.
هذه من الأمور المهمة جدًا، والتي ينبغي ألا تغفل عند النظر للمسائل والنوازل والقضايا المعاصرة، أيضًا من الأمور التي ينبغي أن يُعنى بها: النظر للمآلات، وهذا قد ذكره الشاطبي وغيره، فلا بد أن ينظر لمآلات تقرير هذا الحكم وهذه المسألة، ربما يترتب على مآلات هذا الحكم مفاسد، فقد يلجأ العالم للقول المفضول ويفتي به وإن كان الراجح عنده قول آخر وذلك بالنظر للمآلات.
فمثلا لباس المرأة، يعني لو أتى طالب علم وترجح إليه قول معين في مسألة، لكن هذا القول يترتب عليه توسع النساء في اللباس، وأن النساء لا يقفن عند هذا القول الذي قرره، هنا لا بد أن ينظر للمآلات، ألا يفتي بهذا الرأي الذي ربما يتسبب في إفساد نساء المسلمين. فإذًا النظر للمآلات هذه من الأمور المهمة جدًا التي ينبغي ألا تغفل.
أيضًا قد يقرر مثلا رأي في مسألة، في نازلة، في قضية معاصرة لكنها تتسبب في مفاسد، فهنا يترك تقرير هذه المسألة ويؤخذ بالقول الآخر، والدليل لهذا: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر معاذًا بأن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله، قال معاذ: يا رسول الله: أفلا أخبر الناس؟ قال: لا تخبرهم فيتكلوا».
فأخذ العلماء من هذا فائدة، وهو جواز كتمان بعض العلم للمصلحة، فبعض العلم إذا ظهر عند العامة يترتب عليه مفاسد، ولهذا قال علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله" بعض القضايا التي قد يجتهد فيها الإنسان ويظهر له فيها رأي تقتضي المصلحة أنه لا يبرز هذا الرأي، وإذا سئل يذكر مثلا الرأي الآخر باعتبار أن رأيه لو شاع وظهر لترتب عليه مفاسد.
نحن ذكرنا أن من المزالق عند النظر للنوازل أن المزالق أبرز ذلك التأثر بضغط الواقع، التأثر بضغط الواقع في الحقيقة مزلق خطير، والواجب على العالِم أن يفتي بما يدين الله به، وبما يظهر أنه هو الأقرب لحكم الله ورسوله.
وأما أن يتأثر بضغط الواقع فيقول للناس أن هذا هو حكم الشرع حتى يكون موافقًا للواقع فهذا مسلك خطير، يجب أن نخضع الواقع لشريعة الله، لا أن نخضع الشريعة للواقع، الواقع يجب إخضاعه لشريعة الله عز وجل، فالتأثر بضغط الواقع من المزالق الخطيرة، وبخاصة عند النظر للنوازل والقضايا المستجدة.
ومن المزالق أيضًا: عدم التصور الدقيق للنازلة، وهذا أشرنا إليه، إذا كان الإنسان لا يتصور المسألة تصورًا صحيحًا لا يحل له أن يفتي فيها، لا بد من أن تكتمل صورة النازلة أو القضية لديه بشكل واضح حتى يتبين له الحكم الشرعي فيها.
ومن المزالق أيضًا: البناء على آراء شاذة، فتجد بعض المعاصرين يأتي بقول قال به مثلا عالم في قرن من القرون، ويقرر حكم نازلة أو مسألة مستجدة تخريجًا على قول هذا العالم، هذه من المزالق، ربما يكون هذا القول شاذًا، يعني بقية علماء الأمة على خلافه، فهذه أيضًا من المزالق عند بحث القضايا والنوازل.
وأؤكد على أن أفضل منهج وطريقة تتعامل مع النوازل والقضايا هي أن تصدر عن الاجتهاد الجماعي، هل الاجتهاد الجماعي معصوم؟ وهل هو بمنزلة الإجماع؟ الجواب: لا، هو ليس بمنزلة الإجماع وليس معصومًا، لكنه أقرب للتوفيق، وإصابة الحق، وإلا حتى الهيئات العلمية قد تختلف، أذكر لكم مثالا لما اختلف فيه أبرز مجمعين، المجمع الدولي ومجمع الرابطة.
موت الدماغ هل هو موت بالمعنى الشرعي أم لا؟ فالمجمع الدولي اعتبره موتًا بالمعنى الشرعي، ومجمع الرابطة لم يعتبره موتًا بالمعنى الشرعي، هذه نازلة وهذه اختلف فيها مجمعان.
فإذًا هو ليست آراء الهيئات العلمية يعني معصومة، قد يكون فيها خطأ، وليست بمنزلة الأجماع، ولكنها أقرب للتوفيق وإصابة حكم الله ورسوله من غيرها، هي أقرب للتوفيق.
هذه مقدمة تأصيلية أحببت أن أقدم بها قبل أن أدخل في أبرز النوازل والقضايا المعاصرة في أبواب العبادات.
وبهذا ينتهي الدرس الأول، أردت أن أخصصه في هذه المقدمة التأصيلية، فنكتفي بهذا القدر، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.