الخثلان
الخثلان
حكم صلاة الجماعة وبيان مذاهب العلماء في ذلك

نعود لعبارة المؤلف، قال المؤلف رحمه الله: «الجماعة واجبة».

وهنا يعني نريد أن نفصل في هذه المسألة، حكم صلاة الجماعة، لأن بعض الناس في الوقت الحاضر بدأ يهون من شأن صلاة الجماعة بحجة وجود الخلاف فيه، وأن هناك من أهل العلم من قال بأنها مستحبة، وهذا التهوين كان له أثر على بعض الناس، نريد أن نحقق في هذه المسألة أولًا، وأن نبين هل القول باستحبابها أولًا هو قول الجمهور هل هذا صحيح أم لا؟ ثم ما الراجح حسب ما تقتضيه الأدلة.

أولًا من جهة نسبة الأقوال، أبرز الأقوال في هذه المسألة أربعة أقوال.

 القول الأول: هو القول الذي حكاه المؤلف، وهو أنها واجبة، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو قول أكثر الحنفية، قيل أنه هو المذهب عند الحنفية.

 القول الثاني: أنها فرض كفاية، وهذا هو مذهب الشافعية.

القول الثالث: أنها سنة، وهذا مذهب المالكية.

القول الرابع: أنها شرط لصحة الصلاة، وهذا مذهب الظاهرية ورواية عند الحنابلة.

ونسب البعلي في الاختيارات هذا القول لأبي العباس بن تيمية رحمه الله، إذا أردنا أن نعرف الآن قول الجمهور، فما هو القول الجمهور من هذه الأقوال الأربعة؟

إذا قلنا الآن حنفية مع الحنابلة في الوجوب، بقي المالكية الاستحباب، الشافعية فرض كفاية، إذًا ما هو قول الجمهور؟ الوجوب، فإذًا قول الجمهور هو الوجوب، وليس الاستحباب، وإن كان الموفق ابن قدامة قد عزى القول بالاستحباب للجمهور.

ولكن هذا محل نظر، فعند التحقيق القول بالوجوب هو قول الجمهور، وليس القول بالاستحباب هو قول الجمهور، لأن الحنفية موافقون للحنابلة على الصحيح من مذهبهم في القول بالوجوب.

والمالكية والشافعية مختلفون، المالكية يرون الاستحباب، الشافعية يرونه فرض كفاية، فعلى هذا فجمهور العلماء على أن صلاة الجماعة واجبة.

نأتي للأقوال، أدلة القول الأول: القائلون بوجوب الصلاة مع الجماعة استدلوا بعدة أدلة منها: أولًا: أن الله تعالى أمر بإقامة صلاة الجماعة في حال الحرب، وقال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102]، إلى آخر الآية.

ولو كانت غير واجبة لكانت حالة الحرب أولى بسقوطها، وعدم وجوبها، فإذا كان الله أمر في حال الحرب، فالأمر بها في حال الأمن من باب أولى.

ثانيًا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، وأحرق عليهم بيوتهم بالنار». متفق عليه.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه قد هم بإيقاع عقوبة التحريق بالنار على قوم لا يشهدون الصلاة، والتحريق بالنار عقوبة شديدة، لا تكون إلا على ارتكاب منكر عظيم، فدل ذلك على وجوب صلاة الجماعة، ثالثًا: جاء في صحيح مسلم عن عبد الله ابن أم مكتوبة رضي الله عنه  أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يلائمني يقودني إلى المسجد، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تسمع حي الصلاة حي على الفلاح؟ قال نعم، قال فأجب فإني لم أجد لك رخصة»، قال «فأجب» هذا في مسلم جاء عند أبي داود «فإني لا أجد لك رخصة».

إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد الرخصة لهذا الأعمى الذي ليس له قائد يلائمه، وهو الرحيم الرفيق بأمته، الذي ما خير بين أمرين اختار أيسرهما، فكيف بالصحيح المبصر القادر؟ هذا من أظهر الأدلة على وجوبها، لو كان هناك مجال للترخيص لرخص لهذا الأعمى.

رابعًا: جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم".

قال: ولقد رأيتنا يعني الصحابة وما يتخلف عنها، أي عن الجماعة، إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، وهذا يدل على أن الصحابة يرون أن التخلف عن صلاة الجماعة من علامات المنافقين، لهذا قال: وما يتخلف عنها إلا مخالف معلوم النفاق.

هذا يدل على أنهم يرون وجوبها، لا يقال عن ترك الشيء المستحب أنه من علامة المنافقين، وأيضًا قال: أنها من سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، هذا لا يقال عن الأمر المستحب، إنما يقال عن الواجب.

فأثر ابن مسعود هذا يدل على أن الصحابة يرون وجوب الصلاة مع الجماعة، هذه أبرز أدلة القائلين بالوجوب.

أما القائلون بالاستحباب أو المالكية أبرز أدلتهم أولًا حديث ابن عمر y،  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» متفق عليه.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم فاضل بين صلاة المنفرد والجماعة، وبين أن صلاة الجماعة أفضل، وهذا يدل على أن صلاة الفذ صحيحة مجزئة، لكنها جماعة أفضل، ونوقش هذا الاستدلال بأنه لا يلزم من ذكر الأفضلية عدم الوجوب.

فإن الأفضلية قد تذكر في أمور واجبة، كما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الصف:10-11]، أي أن الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله خير، والإيمان بالله ورسوله هو أوجب الواجبات، ومع ذلك فذكر أنه خير.

فذكر الخيرية والأفضلية لا يدل على عدم الوجوب، كما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9]، وصلاة الجمعة واجبة باتفاق العلماء، ومع ذلك ذكرت الخيرية هنا، فذكر الخيرية والأفضلية لا يدل على عدم الوجوب. ذكر الخيرية والأفضلية في السياق لا يدل على عدم الوجوب.

ثانيًا دليلهم الثاني: قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الرجلين اللذين قالا صلينا في رحالنا، وإنما وجههما بقوله: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم تكون لكما نافلة»، يعني قالوا أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهما لما قال: مالكما لم تصليا معنا؟ قالا صلينا في رحالنا.

وأجيب عن هذا الاستدلال بأن هذا إنما وقع في سفر، في منى والناس متفرقون فيها، كلٌ يصلي في رحله، فهو خارج عن محل الخلاف، هذه أبرز أدلة القائلين بعدم الوجوب أو الاستحباب.

أدلة القول الثالث: أو أدلة الشافعية القائلين بأنها فرض كفاية استدلوا بما استدل به الموجبون أصحاب القول الأول، وجعلوا الصارف عن الوجوب أدلة المالكية، الصارف عن الوجوب العيني أدلة المالكية القائلون بالاستحباب. فقالوا إذًا نجعلها فرض كفاية، لا نجعلها واجبة على الأعيان كما قال الحنابلة ولا أنها مستحبة كما قال المالكية، بل نجعلها فرضًا كفائيًا.

أما أصحاب القول الرابع القائلون بأنها شرط لصحة الصلاة: فقد استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنه، النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سمع النداء فلم يوجب فلا صلاة له إلا من عذر». أخرجه ابن ماجة والدار قطني والحاكم، ونوقش هذا الاستدلال بأن هذا الحديث ضعيف لا يصح مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ولو صح فهو محمول على نفي الكمال، لا على نفي الصحة، بدليل حديث المفاضلة، «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة»، وهذا الحديث صريح في صحة صلاة المنفرد.

والقول الراجح هو القول الأول وهو أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان، كما هو المذهب عند الحنابلة، كما هو قول الجمهور، إذًا القول الراجح هو القول الأول، وهو ان صلاة الجماعة واجبة على الأعيان، كما هو قول الجمهور، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.

  • تاريخ ومكان الإلقاء: جامع الأمير مشعل بحي الخزامى - غرب الرياض