قال: «وفي مسجد»، بقي الآن الكلام عن حكم صلاة الجماعة في المسجد، نحن قلنا أن صلاة الجماعة واجبة، لكن هل يجب أن تؤدى في المسجد أو أن ذلك مستحب؟ واضح صورة المسألة صلاة الجماعة واجبة، لكن هل يجب فعلها في المسجد، أو يجوز أن تفعل في غير المسجد؟
قولان لأهل العلم، القول الأول: أنه لا يجب فعل الجماعة في المسجد، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وإذا قلنا هو المذهب عند الحنابلة معنى ذلك أنه عند بقية المذاهب من باب أولى، المالكية والشافعية من باب أولى، وعند الحنابلة يقولون له فعلها في بيته.
القول الثاني: أنه يجب أن تؤدى الجماعة في المسجد، نأتي لأدلة كل قول، أدلة القول الأول: وهو أن الجماعة لا يجب فعلها في المسجد، استدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلي». قالوا: فهذا دليل على أن الأرض كلها مسجد، فله أن يصلي الجماعة في أي مكان في الأرض.
وأما أصحاب القول الثاني القائلون يجب فعلها في المسجد: فاستدلوا بحديث ابن أم مكتوبة السابق، قال: «يا رسول الله أنه ليس لي قائد يلائمني يقودني إلى المسجد، فهل تجد لي رخصة أصلي في بيتي؟ قال هل تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قال نعم، قال: فأجب».
ما وجه الدلالة؟ وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له في أن يصلي في البيت، مع أن معه في بيته من يمكن أن يصلي بهم جماعة كزوجته وأولاده، كان يمكن أن يصلي في بيته جماعة، ومع ذلك لم يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم، بل جاء في بعض الروايات أنه قال: لم أجد لك رخصة يعني في أن تترك الصلاة في المسجد.
وأيضًا من أدلتهم: حديث أبي هريرة السابق، «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار»، ما وجه الدلالة على وجوب فعل الصلاة في المسجد؟ أنه توعد بالتحريق بالنار، لقوم لا يشهدون الصلاة أي في المسجد، لأنهم قد يؤدوها في البيت جماعة.
وأيضًا أثر ابن مسعود رضي الله عنه السابق: ولقد ما يتخلف عنها، يعني في المسجد، إلا منافق معلوم النفاق.
قال ابن القيم رحمه الله: تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المسجد فرض على الأعيان، إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، قال والذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر، والقول الراجح: هو القول الثاني وهو أنه يجب فعل الجماعة في المسجد، هذا أقوى لأن أدلته أقوى وأصرح.
وأما حديث «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، فليس فيه دلالة على عدم وجوب الجماعة في المسجد، وإنما المراد به أن الإنسان له أن يصلي في أي مكان في الأرض، وليس كبقية الملل لا يصلون إلا في أماكن معينة، وليس في هذا الحديث إشارة إلى الجماعة والمسجد.
وإنما المراد أن الإنسان له أن يصلي في أي مكان، فهذا لا يدل على عدم وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد، وإنما يدل على أن أي بقعة صالحة لأن تكون مسجدًا وأن تؤدى فيها الصلاة، هذا القول الراجح، لكن مع ذلك وجوب أداء الصلاة في المسجد أدنى من وجوب الجماعة.
بل عندنا وجوبان وجوب الصلاة جماعة، والثاني وجوب أن تؤدى في المسجد، فوجوب أدائها في المسجد أدنى مرتبة من وجوب الجماعة، ولهذا يجوز أن تؤدى الجماعة في غير المسجد إذا وجد مصلحة راجحة.